رحــــــ البوادي ـــــال
المشرف المميز : عدد المساهمات : 223 نقاط : 51079 نقاط السمعة : 11 تاريخ التسجيل : 06/07/2010
| موضوع: انتفاضة الشرق وأثرها في الأدب الإثنين 12 يوليو 2010, 4:11 pm | |
| وانتفض الشرق انتفاضته الجديدة؛ ففتح عينيه على حضارة أوربية ذات نظم في السياسة، وأوضاع في الاجتماع، وحقوق للإنسان، ومذاهب في الفكر، وألوان من الأدب، كانت كلها قد نَمَتْ وَرَبَتْ وازْدَهَرَتْ، بفضل كفاح شعبي مرير، وصراع عقلي مديد، وأفانين من التجارب والممارسات، في غضون مئات من السنين، والشرق يومئذٍ منعزل يغط في نومه العميق، تحت ضغط الظروف والملابسات التي أسلمته إلى حكم استبدادي، عانى منه ما عانى من ضروب الاضطهاد. وقد دعمت هذه الانتفاضة الجديدة في ربوع الشرق عناصرُ كثيرة، في مقدمتها ثلاثة: الأول ظهور المطبعة، التي يسرت للتعليم أن ينتشر، وأتاحت للثقافة أن تشيع. والثاني: رعيل البعثات التي عادت من "أوربا"، تحمل مشاعل العلم والمعرفة في أضوائها الجديدة. والثالث: بزوغ الوعي الشعبي الذي ساعد على تكوين الشخصية الوطنية. وإن انتفاضة الشرق في ذلك العهد لهي بمنزلة "عصر النهضة" أو "عصر البعث" في الآداب الأوروبية،، على ما بين الانتفاضة الشرقية والنهضة الأوروبية من فوارق تستدعيها مقتضيات الأحوال، واختلاف العوامل بين الشرق والغرب. وكما حدث في عصر النهضة، أو عصر البعث الأدبي في "أوربا" من قيام تلك النهضة على دعائم من الأدب الإغريقي الذي كان يسمى الأدب الاتباعي أو الأدب الكلاسيكي - حدث في نهضة الأدب العربي أن قامت هي الأخرى على دعائم؛ من أهمها: ابتعاث القديم، وإحياء التراث، وتجديد الشعر بمحاكاة الفحول من الشعراء في أزهى العصور السوالف، وتقليد الأساليب البليغة والفنون الأدبيَّة القديمة؛ مثل "المقامات"، والتعلُّق بالأحكام المنطقيَّة التي كانت تسود الفِكْرَ العربي إبان ازدهاره في حضارة العرب، والقوانين البلاغية التي تَجمَّدت على أقلام العلماء والنقاد في مراحل شتى من الزمن. ونظرة إلى شعر "البارودي" - وهو أوَّل شاعرٍ من ثِمار النهضة - تُرينا أنَّ أكبر ما قام به هو أنَّه ارتفع بِمَوضوع الشعر عن الأغراض الهزيلة التي كان يسبح فيها الشعراء في عصور الركاكة والتَّخلُّف، وأنَّه ردَّ ديباجة الشعر وعموده وأغراضه إلى ذلك المستوى الذي كان لعباقرة الشعر العربي في ماضيه البعيد. ويفسِّرُ هذه النَّظرة: أنَّ "البارودي" نفسه أراد أن يخدم نهضة الشعر؛ فقدَّم لطلابه "مختارات" من أروع ما قال أولئك الشعراء في العهود الماضية، فكان التجديد عند "البارودي" هو الرجوع إلى هؤلاء الشعراء، والاستمداد مما تركوه، وسبيل هذا عنده أن يستظهر الجيل الجديد نخبة الذخائر من ذلك الأدب العربي الكلاسيكي التليد. وكما تجلى ذلك في جانب الشعر - تَجلَّى أيضًا في جانب النثر؛ فقد كان جهد ما تتطاول إليْهِ أقلام الكُتَّاب أن يصطنعوا أساليبَ البُلغاءِ من المُتقدِّمين أمثال "الجاحظ" و"الهمذاني" و"القاضي الفاضل" على تنوُّعها، واختلاف خصائصِ كلٍّ منها، وكانوا يُفاخِرُون بأنَّهم قد تدانَوا من منالها، واتَّخذوا منها مثالاً يُحتذى؛ بل لقد حاول أولئك الكُتَّاب أن يُحْيُوا فنًّا أدبيًّا قديمًا هو فَنُّ "المقامات" الذي برع فيه "الهمذاني" و"الحريري" فيما مضى، وهو لون من ألوان القصص العربي؛ فكتب "اليازجي" على ذلك الغرار كتابه "مجمع البحرين"، وهو إلى اللغة والتعليم أقرب، وكتب "المويلحي" كتابه "حديث عيسى بن هشام"؛ فكان تطوُّرًا لفنِّ الأدب المقامى، ينتحي مَنْحَى القصص الفني، ويعالج من الشؤون ما يتصل بالحياة أوثق الاتصال. وعلى الرَّغْمِ من أنَّ العقليَّة العربيَّة قد نضجت في عهدها الراهن بخمائر من العلم الحديث والحضارة الجديدة، وعلى الرغم من أن الجهد الفكري والإنتاج الأدبي في شتى مواطن العروبة يسهم إسهامًا كبيرًا في متابعة الفكر العالمي والأدب الإنساني، وفي التأثر بمختلف التيارات التي تسفر عنها مناهج البحث وطرائق النقد في الشرق والغرب على السواء – على الرغم من هذا كله؛ فإن هناك نزعة عميقة الجذور في كيان الوطن العربي بمدلوله الواسع، وهذه النزعة لا تبرح تهفو بالمفكرين وقادة الرأي إلى الاستمساك بالأصول العريقة في أدب العروبة، وما أنتجته قرائح العرب على مد العصور الخالية، واعتبار هذه الأصول ينبوعًا عذبًا نقيًّا للتنشئة اللغوية وتربية الملكات وتقويم الشخصية في هذا الجيل وفيما يستقبل من الأجيال، وإن هذه الأصول لتحمل في التعبير عنها على ألسن الكتاب والنقاد أشرف الكلمات دلالةً وأوفرها سناءً؛ فهي تسمى تارةً "الذخائر"، وحينًا "النفائس"، وطورًا "الكنوز"، وآنًا تسمى "التراث". وليس أدل على هذا النزوع العميق من أنك لا تكاد تجد مؤسسة ثقافية، حكومية كانت أو أهلية - إلا رأيتَها قد جعلتْ في طليعة أهدافها البحثَ عن هذه الأصول، وتحقيق نصوصها، وتقريب منالِها من الأنظار والأفكار، متَّخذهً لها في ذلك اسم "البعث" أو "الإحياء" أو "النشر"، أو ما إلى ذلك من الأسماء التي تشعر بجلالة ما ترمي إليه من هدف. ولا ريب في أنَّ لهذا النزوع مغزًى كبيرًا في الرأي العربي العام، ذلك المغزى هو أن أبناء العروبة اليوم في كل مكان حراص على أن يحتفظوا للشخصية العربية بذلك الطابع المستقل، الذي تجلَّتْ عبقريَّته فيما شاد من حضارة فكرية وعمرانية تُشرق بها صفحات التاريخ. وقد كان في عناصر تلك الحضارة ما مهَّد الطريق من بعد للحضارة العالميَّة التي تعيش فيها البشريَّة الآن؛ فالعرب باعتزازِهم بِلُغَتِهم، وإجلالهم لما خلَّفه لهم أسلافُهم في هذه اللغة من مَدَدٍ عقْلِيٍّ غزير -يريدون أن يقروا في وجدان كل عربي أُسُسَ هذا الاعتزاز والإجلال، وذلك إلى جانب إيمانهم بأن في هذا التراث بذورًا صالحة للانتفاع بها على تعاقب الأحقاب. وهم من أجل ذلك، ومن أجل وحدة الفكر العربي التي شملت أوطان العروبة في عصورها المتطاولة - يَعتَبِرُون الأدب العربي والثقافة العربية خلال تلك العصور غذاء حيًّا، يَجِبُ التَّزوُّد منه للحاضر والمستقبل. ولكنَّ هذا النُّزوع الروحي الموصول بروابط تاريخية واجتماعية، ووشائج من وراثات الدم والنَّسب، المستمدّ من الوحي الديني المقدَّس ثباتًا وركانةً، لا يَقِفُ سدًّا دون نُزُوعٍ آخَر يناظر ذلك النُّزوع قُوَّةً وحيويَّة وحرارة إيمان، وهذا النزوع الآخر هو الإقبال على كل جديد من مناهج الأدب، والاغتراف مما أفاضَتْه العقلية الحديثة من مناهل المعرفة؛ فالفكر العربي الذي اتسع قبل ألف من السنين لحكمة الهند، وثقافة الفرس، وفلسفة يونان، حتى استوعب ضروب المعارف والآداب في مختلف الأمم على اختلاف العهود، يستبقي اليوم في كيانه هذه المرونة، وسعة الأفق، وخاصية الامتصاص، ويعمل جاهدًا على أن يتمثل ما جد تحت الشمس من أدب ومن ثقافة ومن عرفان، وهو لا يؤمن بالمثل القائل بأنه: "لا جديد تحت الشمس"، ولكنه يقتدي بما جاء في الأثر من أن: ((الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيثما وجدها أخذها)).
| |
|